لحمدلله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
وبعد :
ان من رحمت الله تعالى بخلقه ان هيأ لهم السبل الموصلة الى رحمته
وهي كثيرة ولله الحمد في الكتاب والسنة
ومن السبل المذكورة في السنة حديث معاذ رضي الله عنه
وسأضع معه شرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله ، أخبرني بعمل يُدخلني الجنة ويباعدني من النار ، قال : ( لقد
سألت عن عظيم ، وإنه ليسير على من يسّره الله عليه : تعبد الله لا تُشرك
به شيئا ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحجّ البيت ) . ثم قال له : ( ألا أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم جنّة ، والصدقة تطفيء الخطيئة كما يُطفيء الماء النار ، وصلاة الرجل في جوف الليل ) ، ثم تلا : { تتجافى جنوبهم عن المضاجع
} حتى بلغ : { يعملون } ( السجدة : 16 – 17 ) ، ثم قال : ( ألا أخبرك برأس
الأمر وعموده وذروة سنامه ؟ ) ، قلت : بلى يا رسول الله . قال : ( رأس
الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد ) ، ثم قال : ( ألا
أخبرك بملاك ذلك كله ؟ ) قلت : بلى يا رسول الله . فأخذ بلسانه ثم قال : (
كفّ عليك هذا ) ، قلت : يا نبي الله ، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ ، فقال
: ( ثكلتك أمك يا معاذ ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم– أو قال على مناخرهم – إلا حصائد ألسنتهم ؟ ) رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح
الشرح
امتاز الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه على غيره من أقرانه بما
آتاه الله من الفهم الثاقب لتعاليم هذا الدين ، بل بلغ رتبة لم يبلغها أحد
في هذا المجال ، وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بعلمه فقال عنه : ( ... وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ) رواه أحمد .
وهذا العلم الذي حباه الله به قد أثمر في قلبه الشوق إلى لقاء ربه ، ودخول
جنات النعيم ، وذلك هو ما أهمّ معاذا وأسهره الليالي ، ولقد نقلت لنا كتب
السير هذا المشهد ، ولنقصّه كما رواه لنا معاذ نفسه ، حيث قال : " لما رأيت
خلوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه قلت له : يا رسول الله ، ائذن لي
أسألك عن كلمة قد أمرضتني وأسقمتني وأحزنتني ، فقال نبي الله صلى الله عليه
وسلم : ( سلني عمّا شئت ) ، قال : يا نبي الله ، حدثني بعمل يدخلني الجنة – وفي رواية : ويبعدني من النار - لا أسألك عن شيء غيرها " .
لقد سأل معاذ رضي الله عنه هذا السؤال ، وهو يعلم أن الجنة لا تنال
بالأماني ، ولكن بالجدّ والعمل الصالح ، وقد تكفّل الله تعالى بتيسير
الطريق وتذليل عقباته لمن أراد أن يسلكه حقا ، فإذا أقبل العبد على ربّه
يسر له سبل مرضاته ، وأعانه على طاعته ، وهذا هو مقتضى قوله تعالى : { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } ( محمد: 17 ) ، وكذلك قوله : { فأما من أعطى واتقى ، وصدّق بالحسنى ، فسنيسره لليسرى } ( الليل : 5 - 7 ) .
وأصل الأعمال الصالحة :
الإتيان بأركان الإسلام ، فتوحيد الله جلّ وعلا هو أساس قبول الأعمال ،
والصلاة والزكاة والحج : من أركان الإسلام التي يجب على كل مسلم ومسلمة أن
يقوم بها ، وقد تم بسط الكلام عنها في مواضع سابقة تغني عن إعادتها هنا .
وبعد أن بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن دخول الجنّة مترتّب على الإتيان
بتلك الأركان ، أراد أن يكافيء معاذا رضي الله عنه على سؤاله العظيم ،
فدلّه على أبواب أخرى للخير .
فمن تلك الأبواب : صيام
التطوّع ، كما جاء في هذا الحديث : ( والصوم جنّة ) ، والجنة هي ما تحصل
به الوقاية ، فالصيام جنة للعبد من المعاصي في الدنيا ، وهو جنّة للعبد من
النار يوم القيامة ؛ لأن العبد إذا صام لله تعالى يوما : باعده الله من
النار سبعين خريفا ، كما جاء في الحديث ؛ ولهذا يستحبّ للعبد أن يستزيد من
صيام النوافل كيوم عاشوراء ، ويوم عرفة ، ويومي الاثنين والخميس ، وثلاثة
أيام من كل شهر ، إلى غير ذلك مما ورد في السنة .
ومن أبواب الخير :
صدقة التطوّع ، وفضل هذه الصدقة عظيم ؛ فإنها سبب لتكفير الذنوب وإزالتها ،
وقد شبّه النبي صلى الله عليه وسلم تكفيرها للذنوب بالماء إذا صُبّ على
النار ، فإنه يطفئها ويُذهب لهيبها ، وليس ذلك فحسب ، بل إنها تفيد صاحبها
في عرصات يوم القيامة وتخفف عنه حرّ ذلك اليوم ، روى الإمام أحمد في مسنده
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كل
امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس ) ، والأحاديث في فضل الصدقة كثيرة
معلومة .
أما ثالث أبواب الخير التي دلّ عليه الحديث فهو قيام الليل ، إنه شرف
المؤمن ، وسلوة المحزون ، وخلوة المشتاق إلى ربّه ، وما بالك بعبد يؤثر لذة
مناجاة ربّه ودعائه على النوم في الفراش الدافيء ، ولذلك يقول النبي صلى
الله عليه وسلم : ( عجب ربنا من رجلين – أحدهما - : رجل ثار عن وطائه
ولحافه ، ومن بين أهله وحيّه إلى صلاته ، فيقول ربنا : أيا ملائكتي ،
انظروا إلى عبدي ثار من فراشه ووطائه ، ومن بين حيّه وأهله إلى صلاته ؛
رغبة فيما عندي ، وشفقة مما عندي ) رواه أحمد في مسنده .
وكأن النبي صلى الله عليه وسلم لمح في عينيّ معاذ رضي الله عنه الرغبة في
معرفة المزيد ، فأتـى له بمثال يبيّن حقيقة هذا الدين ويصوّره ، وقدّم بين
يدي هذا المثال تشويقا ، فقال : ( ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ؟ ) .
لقد شبّه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام بالرأس ، لأن الرأس إذا ذهب : ذهبت معه الحياة ، فكذلك إذا ذهب إسلام المرء : ذهب دينه .
وفي قوله : ( وعموده الصلاة ) تشبيه للصلاة
بالعمود الذي لا تقوم الخيمة إلا به ، ووجه ذلك : أن الصلاة هي أعظم أركان
الإسلام العملية التي يتصل بها العبد بربّه ، وهي الحد الفاصل بين الإيمان
والكفر ، وكذلك فإنها من أوضح الشعائر التي تميّز المسلم عن غيره ؛ لهذا
حظيت بهذه المنزلة ، وتلك المكانة .
ولما كان الجهاد سببا في ظهور الإسلام ، وعاملا من عوامل انتشار هذا الدين ؛
شبّه النبي صلى الله عليه وسلم مكانته بذروة سنام الجمل ، ولئن كان الجمل
متميزا بذروة سنامه ، فإن هذا الدين متميز بالجهاد ، ولا يخفى على المسلم
فضل الجهاد وأجره ، وحسبنا أن نستحضر حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( مقام
أحدكم يعني في سبيل الله خير من عبادة أحدكم في أهله ستين سنة ، أما تحبون
أن يغفر الله لكم وتدخلون الجنة ؟ جاهدوا في سبيل الله . من قاتل في سبيل
الله فواق ناقة وجبت له الجنة ) رواه أحمد .
ثم أرشد النبي صلى الله عليه وسلم معاذا رضي الله عنه إلى ما يحصل به إحكام
الدين وإتقانه ، ليجعل ذلك خاتمة وصيته له ، لقد أرشده إلى مراقبة لسانه
والمحافظة على منطقه ، وما ذلك إلا لشديد أثره وخطر أمره ، كيف لا ؟ وهو
الباب إلى كثير من المعاصي ، فهو السبيل إلى كلمة الكفر ، والقول على الله
بغير علم ، وشهادة الزور ، والكذب والغيبة والنميمة ، فلا ينبغي التهاون في
شأن هذه الجارحة أو التقليل من خطورتها.
فحفظ اللسان هو عنوان الفلاح ، وطريق السلامة من الإثم ، فالنبي صلى الله
عليه وسلم بتحذيره من خطر اللسان ، يدعونا إلى تسخيره في مجالات الخير
والمعروف ، وميادين الذكر والإصلاح ، حتى يُكتب للمرء النجاة ، وذلك هو
غاية ما يتمناه المرء .
والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
نقلاً